صَـابِنَّهَـا
محمد عبد الماجد
رئيس مَـوالِيد مُـدَرّجَـات الهِــلال
في الأيام الماضية، رحل رئيس الهلال اللواء عمر علي حسن الذي وصل في الشرطة لرتبة اللواء ووصل في الهلال لرتبة رئيس الرؤساء ـ لم نكتب عن ذلك الرحيل وقتها ربما لصدمة الرحيل ـ لا أقول لم نكتب بسبب المفاجأة، لأنّ الموت حاضرٌ في كل اللحظات وهو أمرٌ يجب أن لا نتفاجأ به، غير أن صدمات الرحيل في الفترة الأخيرة كانت قوية ـ والأعزاء الذين كانوا يشغلون حياتنا بنشاطهم وكان وجودهم جزءاً منّا، عندما يرحلون نشعر أنّ رحيلهم (مفاجأة)، نكاد أن لا نصدق إنا صرنا بدونهم، أحياناً يلجمك الحزن فلا تستطيع أن تقول شيئاً، أو تكتب حرفاً ـ ونحن نحاول أن نفلت من الحزن بعدم الكتابة فيه.
والأحزان في هذه الحرب إن لم تتغافلها تغلّبت عليك، وإن استسلمت لها أفقدتك القدرة على الحياة.
من حكمة المولى عز وجل أن الصبر يزيدك قوةً، لا ضعفاً، وكلما عظم البلاء وعظم الصبر كلما عظمت قوتك.
اصبروا فليس لنا غير الصبر ملاذاً وارضوا بأقداركم، إن لم ترضوا بها لم تزدكم إلا وباءً.
نهرب من الجراحات بعدم التوقف عندها ـ أصبحنا نخشى توثيق الأحزان.
اللواء عمر علي حسن توقف الناس كلهم في حبه للهلال ـ أكد ذلك مجلس الهلال في بيان نعاه فيه عندما ثبت دعم الراحل لهم، وكذا قال المهندس الحاج عطا المنان الذي كتب عنه، وشهد بذلك الحكيم طه علي البشير في تشييع الراحل، وعنه وفي ذات الإطار كتب عبد المنعم شجرابي، كلهم اتفقوا على حبه للهلال، وإعجازه عندي يتمثل في أنه كان رئيساً للهلال ومُنح لقب رئيس الرؤساء، إلا أنه كان (مشجعاً) للهلال، ولا أدري هل كان رئيساً بدرجة (مشجع) أم أنه كان مشجعاً بدرجة (رئيس)؟
وفي الحالتين كان مختلفاً.
اللواء عمر علي حسن هو مثال للرئيس (الشعبي) الذي لم يفقد منصبه حتى بعد أن ترجل من منصب الرئاسة.
في الهلال اشتهر بالكتابة وسحر اللغة ونصاعة البيان الحكيم طه علي البشير، وأبدع في الكتابة بشكل راتب الأرباب صلاح إدريس، ويبدع الآن الأمين العام للهلال الدكتور حسن علي عيسى الذي يمكن أن يكتب لك بثلاث لغات بنفس الجودة والاتقان، غير أنّ اللواء عمر علي حسن كان صاحب نكهة (فنية) خالصة في كتاباته، كان له في ذلك مفردة (خلاسية) تتدفّق عشقاً في الهلال.
الهلال عالمٌ مختلفٌ ـ دائماً تجد فيه مثل هذه الإبداعات، كان صلاح إدريس يلحن الأغنيات ويكتب للصحف وكان أشرف الكاردينال يكتب الشعر ويقرضه وكلاهما غنى لهما كبار في حجم وقامة كمال ترباس وحسين شندي وعادل مسلم وجمال فرفور.
وهذا هو سحر الهلال الذي قدم لنا رئيساً في إبداع اللواء عمر علي حسن رحمة الله عليه.
من تجليات اللواء عمر علي حسن التي يختلف فيها عن رؤساء الهلال السابقين، إنّه ظل قريباً من الهلال وحاضراً فيه بقوة، حتى بعد أن ابتعد عن الرئاسة وهذا شئٌ نعود ونؤكده، لم تكن علاقته بالهلال بهذا المنصب، كان رئيساً من منازلهم حتى بعد انتهاء دورة مجلسه ورئاسته في الهلال، وكان مشجعاً عندما كان رئيساً.
كان اللواء عمر علي حسن يمثل في المجتمع الرياضي حالة فريدة من الهيبة والوقار والكاريزما والعشق الذي لا يُضاهى للهلال ـ كنا نرى فيه هيبة الهلال وجلاله، وكان يُجسِّد لنا حالة العشق التي نريدها لنادي الحركة الوطنية.
اللواء عمر علي حسن حتى وهو في فراش المرض كان مهموماً بالهلال، فقد نقلت صحيفة وموقع (أكشن سبورت) هذا الخبر كما جاء منهم:
في لحظاته الأخيرة، ورغم تعب الجسد، بقي قلب اللواء الراحل عمر علي حسن مغمورًا بحب الهلال، منشغلًا بهمّه الأثير، أن يحفظ النادي الكبير من سهام النقد الجائر ومن حملات الاستهداف التي تطاول أبناءه الداعمين.
الدكتور ياسر زين العابدين، رئيس رابطة الهلال السابق بالرياض، يقدِّم هنا هذه الرسالة التي خطّها الراحل بيده، مُحمّلة بصدق لا يُشبه إلا صدقه، وبحكمة رجلٍ عاش للهلال، وقدّم له عبر عشرين عامًا عملاً خفيًا ونقيًا لا يعرف الإعلام طريقًا إليه.
إنها وصية رجلٍ كبير، طالبَ بأن تُصان سيرة العاملين للهلال، وبأن يُحفظ جهدهم من التشويه، وبأن يتوقف بعض النقاد عن الهدم المجاني.
رسالة تستحق أن تُقرأ، وأن تُوثّق، وأن تُنشر على كل منبر هلالي، كما أراد صاحبها.
نص رسالة اللواء عمر علي حسن
د. ياسر لك الاحترام والتحية،،
فإنني لم أجد غيرك أمينًا على صرختي الأخيرة في مجموعات نقاد الهلال ومستهدفي كل من يقدّم له خيرًا (Critics of the Society).
أرجو أن يكفّوا أيديهم عن أبناء الهلال الذين يبنون ويدعمون – ولو أخطأوا – وألّا يثيروا جماهير الهلال ضدهم لمجرد اختلافهم في الرأي.
وأن تقوم بنشر هذه الرسالة في كل منبر هلالي.
ولك مني أجزَل الشكر
عمر علي حسن.
هكذا كان عمر علي حسن، فقد عاش من أجل ذلك ورحل وهو يترك وصية لأبناء الهلال لدعم ناديهم ومساندته، لقد قال لأهل الهلال كفوا أيديكم عن نقد الأيادي التي تبني وتعمر في الهلال، أقل ما يمكن أن نقدمه لهذا الرجل بعد الدعاء له بالرحمة والمغفرة، هو أن يبقى الهلال دائماً في القمة والعلالي، اعملوا من أجل الوحدة والاستقرار، ولا يحتاج منكم الهلال لأكثر من ذلك.
لقد كانت آخر صرخاته كما أكد هو بنفسه عن الهلال، فما أعظم الرجل وما أعظم الهلال.
وفي غياهب حزننا هذا، رحل أيضاً في الأيام الماضية بمدينة أسوان بجمهورية مصر العربية الصحفي حسن محمد زين وهو من أروع الذين كتبوا العمود الصحفي، حيث تميّز بأسلوب سلس وأفكار غريبة، لا تستوعبها من الوهلة الأولى.
حقّق حسن محمد زين نجومية بكتابة العمود الصحفي وكتب في الرأي العام وفي أخيرتها عندما كان يكتب فيها كبار كُتّاب الأعمدة الصحفية، وقبلها كان حسن محمد زين يكتب في صحيفة الشارع السياسي وهي الفترة التي التقينا به ونهلنا من أدبه الجم، وشهدنا له بطيب أخلاقه الرفيعة ـ كان صحفياً هادئاً، لا يحب الضجيج والأضواء يكتب عموده بهدوءٍ، فيفعل ما كان يفعل المتنبي (أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها ويَسهرُ الخَلْقُ جَرّاها ويَختَصِمُ).
وفي هذه الأيام، تابعت بحزن كبير اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي حزناً على رحيل الشاب الصغير مؤيد ابن الفنان طارق العوض، وقبل ذلك كنت أشعر بحضور مؤيد مع والده في كل تحركاته وسكناته، كان عينه التي يرى بها وقلبه الذي يخفق بالحياة، كان عكازته وسنده الذي يعتمد عليه، كان ربابته التي يغني بها ـ يبدو من الصور أنه كان شغوفاً بوالده، ووالده كان شغوفاً به، لذلك عندما رحل مؤيد حملت هَـمّ طارق العوض، وأنا أعرفه فنانا مرهف الحواس، ترى كيف سيحتمل هذا الفراق الصعب، إذا كان كل الذين يعرفون مؤيد تمزقوا إرباً بسبب رحيله.
لكن قلت متصبراً، إنّ حكمة الله جعلت طارق اسمه طارق العوض، سوف يعوض عليه الله وسوف يجعل الجنة دار بقاء لمؤيد “اللهمّ أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار”.
والحزن بالحزن يذكر..
لا أستطيع هنا أن أسقط من الذاكرة رحيل عبده السيد ابن منطقة الجريف الذي تسببت مليشيا الدعم السريع في موته، بعد أن كانت سبباً في إشكاليات صحية حدثت له فكانت سبباً في رحيله.
عبده السيد لا تستطيع أن تتذكّره إلا وهو قادمٌ من المسجد أو في طريقه إلى المسجد ـ كان يقضي وقته كله في المسجد يصلي أو منتظراً للصلاة.. لا يمكن أن تجده إلا في حالة ذكر، لذلك كان في قمة الصفاء والنقاء.. كان في براءة الأطفال من لطفه وتقواه.
أتذكّره الآن وهو على ملابسه آثار من المياه بسبب الوضوء، يدخل المسجد مبتسماً ويخرج مبتسماً.
كان عبده السيد بسماحته تلك وتقواه، محباً للهلال ـ دائماً يحدثك عن الهلال ـ وناس الجريف غرب عندهم (طيبة) تخصهم وحدهم، مترابطون ومحبون لبعضهم البعض، اجتماعياتهم قوية وعلاقاتهم أكثر مودّة من علاقة الدم.
عبده السيد كان منهم، وطارق النعمة المحامي وياسر النعمة شقيقه، رجل بمسطبة شعبية كاملة في حب الهلال، ويبقى سامي الجريف أو سامي الحريف كما يُطلق عليه، أحد إشراقات الجريف.. الغريب أن كل هذه الأسماء تشجع الهلال، ويتصدرهم في حب الهلال خالد السيد شقيق الراحل عبده السيد، إنها أسماءٌ لا تملك إلا أن تقف عندها إجلالاً واحتراماً وتقديراً.
هذه الحرب فرّقتنا، وزّعتنا في مشارق الأرض ومغاربها، حرمتنا حتى من المشاركة في التشييع أو العزاء.
كثيرون رحلوا في مصر وقُبروا فيها، وكثيرون رحلوا في قطر أو الإمارات أو السعودية وقُبروا في تلك الأراضي، بعيداً عن أوطانهم.
نسأل الله تعالى الرحمة لأمواتنا، ونسأله أن يحفظ أبناء السودان في كل أرض وتحت أي شمس، وأن يعود السودان أقوى وأعظم ـ يسع كل الناس ولا يضيق حتى على أبنائه.
إنّ مد الله في الأعمار، سوف نكتب عن من رحلوا أثناء هذه الحرب، بدايةً من فوزي المرضي وابنته وحامد بريمة وشادن وحتى عمر علي حسن ـ سنحاول نقف عند كل من رحل وإن كان من رحل مواطناً عادياً غير معروف للعامة.. سنحاول أن نقدم نماذج لأحزاننا في الحرب عندما تضع أوزارها.
اللهم اجعل هذه الأحزان، هي آخر أحزاننا، واحفظ السودان أرضاً وشعباً.
بعد كتابة هذا العمود، علمت برحيل المحامي والمستشار القانوني السابق لنادي الهلال ماجد إسماعيل، وهو من أخلص الهلالاب وأكثرهم نقاءً وطهراً، كان إلى جانب نجاحاته في عمله الخاص، مهموماً بالعمل العام، فقد ظَـلّ مهموماً بالوطن حتى وهو في فراش المرض، عُرف بهلاليته الجميلة ووطنيته العظيمة وعفته الظاهرة، كان عفيف اليد واللسان، صاحب نفس أبية ورح خفيفة، وهو فقدٌ كبيرٌ للبلاد، نسأل الله له الرحمة والمغفرة.. إنه فقدٌ جللٌ والله ولكن لا نقول إلا ما يرضي الله.
ترى ماذا أقول عنه غير أنّه كان من الشخصيات النبيلة والمُحترمة والقوية والعزيزة، كان يجمع في شخصه كل الصفات الجميلة والحميدة، هو شخصية فريدة حقاً.. شخصية فعّالة ومثمرة ونادرة، أينما وقع نفع، اللهم ارحمه واغفر له يا الله يا كريم.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سأعود لاحقاً للكتابة عنه، كما إنّني سوف أكتب إن شاء الله عن الشاعر عبد القادر أبوشورة الذي رحل أيضاً مؤخراً.
…
متاريس
كثيرون فضّلوا في هذه الحرب البقاء في ديارهم والصمود فيها والدفاع عنها حتي وأن أصبحت بيوتهم قبوراً لهم.
والغربة موت آخر.
الأكيد أنّ السودان سوف يعود أقوى إن شاء الله.
اليوم يواجه المنتخب السوداني نظيره العراقي، والمنتخب العراقي مثل الجزائري يتميّز بالروح القتالية.
كذلك يتميّز العراقي بالسرعة وهو يمر بأفضل حالاته ويستعد لملحق كأس العالم لبلوغ نهائيات كأس العالم.
ولكن المنتخب السوداني دفوعاته أقوى، وإمكانيات اللاعبين الفنية جيدة والروح القتالية حاضرة.
بالتوفيق لمنتخبنا اليوم.
إن شاء الله نصرٌ من عند الله.
نقول يا رب.
…
ترس أخير: ليس هنالك مثيلٌ للجمهور السُّـوداني.. ولا في الأحـلام.



