صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

خواطر من الحرب اللعينة (1)

178

 

(ميزات السكن في الأطراف)

أبوعاقله أماسا
* قد أكون محظوظاً، أو هكذا خالجني الإحساس ممزوجاً بشيء من السعادة، وإن كان حظي في العادة كحظ الصحراء من المطر.. أن أكون ضمن سكان هذا الحي الطرفي البعيد في أقصى شمال العاصمة الوطنية أم درمان وأكون متأرجحاً بين الرضاء التام بما هو مقسوم والجاهزية لخوض المغامرات، وطيلة أحد عشر عاماً التي قضيتها هناك كنت أتحاشى أن أحكى معاناة الرحلة اليومية إلى حيث مقار الصحف التي أعمل بها وهي في الغالب تقع في الخرطوم شرق، بإستثناء صحيفة التيار في بداياتها، وعندما بلغت قمة المعاناة في صحيفة التغيير عندما كان رئيس التحرير الأستاذ/إمام محمد إمام يلزمنا بالحضور المبكر حيث الإجتماع الروتيني لهيئة التحرير في العاشرة صباحاً، ثم البقاء حتى تسليم الصفحات بعد مراجعتها كرؤساء أقسام ربما لما بعد منتصف الليل.. وفترتنا في صحيفة التغيير كانت تذكرني بأيام المدرسة الإبتدائية عندما سكنت أسرتي في آخر مدينة أبوعشر في إمتداد سكني جديد وكانت مدرستنا في أول المدينة، ونضطر لقطع الأميال مشياً على الأقدام ونحن في أعمارنا الغضة، وغالباً ما كنا نصل إلى المدرسة أثناء أو بعد الطابور الصباحي، أو أثناء الحصة الأولى وغالباً ماتكون (رياضيات)، فيعاقبنا الأستاذ على التأخير، ومرة أخرى لأننا لم نستوعب الدرس لوصولنا بعد إنتهاء الشرح الأساسي، ونتيجة لذلك نشأت بيني وبين معلمي هذه المادة ما يشبه الذي يحدث بين البرهان وحميدتي الآن، فانتقلت هذه الحالة معي حتى المرحلة الثانوية.. وذات مرة أشعلت أزمة مع الأستاذ/رشاد إبراهيم بن قرية النوبه المهذب بمدرسة الكاملين الثانوية، وعندما انتقلت إلى النيل الأبيض الثانوية بالدويم أشعلتها مع الأستاذ/ مدني من قرية الكويك المجاورة لكوستي بدون سبب مقنع سوى أنهما يدرسان مادة الرياضيات سيئة المكانة عندي.. وفي صحيفة التغيير لم أستطع المواصلة بعد الإستعانة بسمية سيد التي خلفت إمام محمد إمام ومازلت أعتقد أنها كانت أسوأ تجربة لي مع رئيس تحرير في مشواري وأنها غير مؤهلة لهذا المنصب رغم أنها صحفية ناجحة في الأقسام الإقتصادية..!!
* أعود إلى أصل القصة وهي السكن في الأقاصي والأطراف، وكثيراً ما كان زملائي يعيرونني بذلك، وأرد عليهم بأنني أسكن (المنشية) لأحول النقاش من جديتهم وجفافهم إلى مزاحي ومرونتي، وكنت أشعر بعبء ثقيل على كاهل أصدقائي الذين يجدون انفسهم مجبرين على إيصالي بعد منتصف الليل عندما نعود من مشوار إجتماعي أو مهمة عمل وأشعر بالحرج، ولكنني بدأت أشعر بمميزات هذا السكن الريفي وأحاول التأقلم على ذلك، وأرفض كل الإغراءات للسكن في أحياء وسط البلد، ذلك لأنني لم أكن يوماً من سكان العمارات أو الشقق، فانشرح قلبي للحياة الريفية فأكملتها ببعض اهتماماتي في الزراعة وتربية الحيوانات والطيور في أوقات فراغي..!!
* قبل عشر سنوات، عندما اشتعلت المظاهرات في الخرطوم (٢٠١٣)، وأضرمت النيران في كل أرجاءها وعلت هتافات (الشعب يريد إسقاط النظام).. كنت عائداً من مقر الصحيفة، وبالكاد وجدنا وسيلة أقلتنا من السوق العربي إلى الشهداء ثم إلى سوق صابرين في معجزة غامر بها صاحب سيارة ملاكي أوصلنا بمقابل يقدر بستة أضعاف التعريفة العادية.. وعندما وصلنا إلى هناك وجدنا مظاهر الفوضى تسيطر على المكان، والحرق والسلب والنهب وكل شيء خارج عن القانون والحضارة، وبعض الأكشاك قد قلبت رأساً على عقب بعد أن نهبت، وكذلك المحلات التجارية وأماكن الخضروات والجزارات والمطاعم.. ومازلت أتذكر مشهد بعض الصبية وهم يهاجمون شواية دجاج، وعندما نظرنا في إتجاه الإسكان كان الشارع يمر ب(الخدير) وهي محطة تقع بين الحارات (٤٠ _ ٤١ _ ٥٤ _ ٤٧) كملتقى وتعتبر بؤرة للإجرام من كل صنف، ولكي نبلغ مقصدنا وبيوتنا كان يتعين علينا المرور بهذا المكان العجيب الذي لا تعبره إلا وأنت في حالة إستعداد تام وهاتفك في جيبك وكل شيء ثمين تحت أرجلك ولا أمن هناك ولا أمان، فنظرنا على طول الطريق ولم نجد خمسة أمتار خالية من اللساتك المحروقة على مد المسافة من صابرين وحتى الإستوب الفاصل بين مدينة الإسكان وبقية حارات الثورة، ولم يكن هنالك بد من قطع المسافة راجلين.. كنا زهاء الخمسة عشرة رجلاً في مختلف الأعمار.. توكلنا على الله وانطلقنا، حتى إذا بلغنا محطة أمونيا للوقود والتي تقع عند الخدير تماماً كان أكبر تجمع لشباب ليسو بالثوار.. ولم تكن هنالك أعلام ولا هتافات ثورية كالتي تركناها خلفنا.. بل كان عزمهم وهدفهم كله هو التخريب، فحملوا الأسلحة البيضاء.. السيخ والسواطير والعصي والسكاكين، وانشغل بعضهم بحمل اللساتك المشتعلة إلى مخارج الوقود في محاولة لإحراق المحطة بما فيها.. ولكنهم فشلوا لسببٍ ما.. ربما للتأمينات الكبيرة، ولكنهم ألحقوا بها أضراراً جسيمة..!!
* ذلك الجمع كان أكبر عدد من (النيقرز) أراه حتى ذلك الحين، ولم تكن أمامنا حلول سوى أن نطلق سيقاننا للريح.. ويومها لم يكن بمقدور العدائين أبوبكر كاكي أو إسماعيل أحمد إسماعيل وصديقي محمد يعقوب وخالد أحمد موسى (كانوتيه) أن يلحقوا بي.. فقد كنت في قمة اللياقة البدنية، فنجونا من ذلك الكمين.. ولكن دهشتنا كانت بالغة مداها عندما وصلنا إلى الإستوب ودخلنا الإسكان بعد رحلة شاقة ووجدنا الحياة طبيعية وكأننا سافرنا من بقعة ملتهبة من العالم إلى جزيرة سياحية هادئة في المحيط الهاديء، فلم تكن هنالك مظاهر للشغب أو أية لساتك محروقة، ولا بمبان ولا نهب.. وكل شيء كان أكثر من عادي، المحلات التجارية مفتوحة.. والمطاعم والمخابز تعمل بطاقتها المعتادة، والركشات في محطاتها تنتظر ركابها.. فقفزت سريعاً إلى واحدة أوصلتني إلى بيتي.. ولم يصدقني أحد فيما عانيت ولم أجتهد لإقناع أحد.. غير أني كنت متأكداً أننا نسكن في عالم آخر ومكان لا ينتمي لزخم الخرطوم وزحامها ومصائبها التي لا ترحم ولا تنتهي..!
.. نواصل ونتابع..

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد